نحو مستقبل رقمي مستدام: تحقيق التوازن بين الابتكار واستخدام الطاقة

Thumb Banner Iberdrola Report 02
المواضيع: مقالة

بقلم: شيخ علي بن الوليد آل ثاني، الرئيس التنفيذي لوكالة ترويج الاستثمار

        سانتياغو باناليس، العضو المنتدب لمركز إيبردرولا للابتكار في الشرق الأوسط

 

يشهد العالم تحوّلًا رقميًا متسارعًا يُعيد تشكيل مختلف القطاعات، تقوده تقنيات متقدمة، تشمل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء.  ويُعد الذكاء الاصطناعي عنصرًا جوهريًا في هذا التحوّل، نظرًا لقدرته على تطوير أنظمة ذكية، ودعم اتخاذ أفضل القرارات، وتقديم حلول فعّالة على نطاق أوسع.  كما يُسهم التوجه نحو إنشاء مراكز بيانات عالية الكفاءة، وتبني تقنيات تبريد موفّرة للطاقة، في تعميق التكامل بين التكنولوجيا واحتياجات المجتمعات.

بيدّ أن هذا التسارع التكنولوجي يُقابله ارتفاع ملحوظ في الطلب على الكهرباء، مما يُبرز الحاجة الملحّة إلى تبنّي حلول مستدامة.  وتُظهر الإحصاءات أن حجم الاستثمارات العالمية في مراكز البيانات بلغ في عام 2024 نحو نصف تريليون دولار، في حين وصل استهلاك هذه المراكز إلى حوالي 1.5% من إجمالي استهلاك الكهرباء عالميًا، أي ما يعادل قرابة 415 تيراواط/ساعة، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية،  وقد استحوذت الولايات المتحدة على الحصة الأكبر من هذا الاستهلاك في عام 2024 بنسبة 45%، تلتها الصين بنسبة 25%، ثم أوروبا بنسبة 15%.

وعلى الصعيد العالمي، نما استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات بنسبة 12% سنويًا منذ عام 2017، ويُتوقع أن يتضاعف ليبلغ 945 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030، وهو ما يعادل تقريبًا الاستهلاك السنوي الحالي للكهرباء في اليابان، مدفوعًا بشكل رئيسي بالنمو السريع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. وتشير التوقعات إلى مراكز البيانات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي قد تستهلك بحلول عام 2030 ما يزيد بأربعة أضعاف عن المعدل الإجمالي للاستهلاك الكهربائي لمراكز البيانات التقليدية.

وتُثير زيادة التوقعات بشأن زيادة استهلاك الطاقة، تساؤلاً جوهريًا: كيف يمكننا تحقيق الاستفادة من الابتكار الرقمي دون الإخلال بمبادئ الاستدامة؟ إن تحقيق التوازن بين التحوّل الرقمي والاستخدام المسؤول للطاقة يُعد ركيزة أساسية لبناء مستقبل رقمي مُستدام، ويتطلب هذا التحدي تحركًا استباقيًا ومنسقًا من الحكومات، وصنّاع السياسات، وقطاع الأعمال.

الرقمنة وارتفاع الطلب على الطاقة

في ظل غياب تدابير استراتيجية فعّالة، قد يؤدي التوسع المتسارع في الخدمات الرقمية إلى زيادة الضغط على شبكات الكهرباء، مما قد يُبطئ من وتيرة التحوّل نحو مصادر الطاقة المستدامة.  ويُعدّ النمو السريع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي أحد أبرز المحرّكات الأساسية لهذا الاتجاه.  ووفقًا لتقرير مشترك صادر عن وكالة ترويج الاستثمار و"إيبردرولا للابتكار – الشرق الأوسط"، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي تستهلك طاقة تزيد بنحو 33 ضعفًا مقارنةً بالبرمجيات التقليدية المتخصصة، كما أن تنفيذ أمر واحد عبر "تشات جي بي تي ChatGPT"قد يستهلك طاقة كهربائية تزيد بأكثر من  10 أضعاف مقارنةً بعملية بحث واحدة على "جوجل  Google".

علاوةً على ذلك، يُسهم انتشار شبكات الجيل الخامس ،(5G) إلى جانب الزيادة المستمرة في عدد أجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء — من المنازل الذكية إلى المركبات ذاتية القيادة — في زيادة الطلب على الطاقة بشكل ملحوظ، ويُتوقّع  أن يتجاوز عدد هذه الأجهزة 32 مليار  بحلول عام 2030، وهو ما يُنذر بارتفاع كبير في استهلاك الكهرباء، ويسلط الضوء على الحاجة المُلحّة للتوسع في مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.

الرقمنة أداة لتحقيق الاستدامة

رغم ما تشهده شبكات الطاقة من ضغوط متزايدة نتيجة النمو الرقمي، فإن الرقمنة تقدم حلولًا مبتكرةً لخفض البصمة الكربونية، وتحسين الكفاءة في مختلف القطاعات الـمُستهلكة للطاقة، ففي قطاع النقل تمكّن تقنيات الذكاء الاصطناعي من جمع البيانات وتخزينها وتحليلها لتحسين العمليات، ومستويات السلامة، والكفاءة التشغيلية.  ووفقًا لتقرير الابتكار المشترك، تُسهم أنظمة النقل الذكية (TIS) في خفض استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 25%، من خلال تقليل الحاجة إلى التنقل، والتحوّل إلى الوسائل النقل البديلة، وتقليص استهلاك الطاقة لكل كيلومتر.

تُعزز تقنيات التحليلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي وتيرة التحوّل نحو أنظمة طاقة أكثر استدامة، من خلال تحسين نماذج تخطيط وتشغيل مرافق توليد الكهرباء وشبكات النقل، وتحقيق التوازن بين الإنتاج والطلب، بالإضافة إلى إدارة الأحمال الكهربائية بفعالية في الوقت الفعلي، في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل المركبات الكهربائية، وأنظمة التبريد والتدفئة.

وفي السياق ذاته، تُعد مراكز البيانات الضخمة من أبرز القطاعات التي تبنت حلولاً متقدمة لإدارة الطاقة، منها أنظمة التبريد السائل عالية الكفاءة، وتحسين أداء الخوادم باستخدام الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال، تُظهر التجربة الألمانية مع محطات الطاقة الافتراضية المدعومة بالذكاء الاصطناعي القدرة على التنبؤ بالطلب على الطاقة بدقة تصل إلى 94٪، مما يُعزز كفاء توزيع الطاقة.  أما في سنغافورة، فتستند خارطة طريق مركز البيانات الخضراء لعام 2024 على معايير لكفاءة الطاقة تم اعتمادها في عام 2023، بهدف دعم نمو قطاع مراكز البيانات بطريقة مستدامة.  وبالنظر إلى تسارع وتيرة التحوّل الرقمي ، باتت الرقمنة عاملاً رئيسيًا في خفض البصمة الكربونيّة لقطاع الطاقة.

بالإضافة إلى تطبيق تقنيات كفاءة الطاقة للحدّ من ارتفاع الطلب المستمر، تُبرز الحاجة أيضًا التخطيط السليم والاستثمار في مجالات التوليد النظيف للطاقة وتخزينها، مع إيلاء أهمية خاصة لتطوير البنية التحتية للشبكات الكهربائية، تجنبًا لأي تأخير قد يُعيق التوسع في إنشاء مراكز البيانات وتشغيلها.

دولة قطر: نموذج في التوازن بين الرقمنة والاستدامة

تُمثل الرقمنة والتنويع الاقتصادي ركيزتين أساسيتين في رؤية قطر الوطنية 2030، لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية. وفي هذا السياق، تعمل دولة قطر على دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية، ومراكز البيانات ضمن استراتيجياتها التنموية لتحقيق التقدم التكنولوجي دون الإخلال بالتزاماتها البيئية.

وتستخدم مشاريع المدن الذكية في لوسيل ومشيرب، أنظمة إدارة الطاقة المعتمدة على إنترنت الأشياء، لترشيد استهلاك الكهرباء الطاقة رقميًا في الوقت الفعلي.  ونجح مشروع "مشيرب قلب الدوحة"، أول مشروع تجديد حضري مُستدام في العالم لتطوير وسط المدينة، في خفض استهلاك الطاقة بنسبة 30٪، بالتوازي مع توسيع نطاق مبادرات الطاقة المتجددة في البلاد.

على صعيد الطاقة المتجددة، تواصل قطر للطاقة تنفيذ مشروع محطة دخان للطاقة الشمسيّة بطاقة إنتاجية تصل إلى 2000 ميغاواط، لتصبح واحدةً من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، ليرتفع إجمالي القدرة الإنتاجية للطاقة الشمسيّة في قطر إلى 400 ميغاواط بحلول عام 2030. وتنتج محطة الخرسعة للطاقة الشمسية 800 ميغاواط، أول محطة شمسيّة واسعة النطاق في قطر، بالإضافة إلى محطتي راس لفان ومسيعيد للطاقة الشمسية اللتين توفران طاقة إنتاجية إجمالية تبلغ 875 ميغاواط من الكهرباء.

كما تُواصل دولة قطر توسيع شراكاتها مع روّاد الصناعة العالميين تعزيز التحوّل في مجال الطاقة النظيفة، ومن أبرز هذه المبادرات، التعاون مع مركز إيبردرولا للابتكار في الشرق الأوسط، الذي يتخذ من الدوحة مقرًا له.  وقد شهد المركز نموًا بأكثر من ستة أضعاف منذ عام 2018، وأسهم في تطوير حلول رقميّة مبتكرة تدعم مسار التحوّل نحو الطاقة المستدامة.  وفي عام 2022، أسهمت اتفاقية التعاون بين وكالة ترويج الاستثمار وشركة إيبردرولا في دعم جهود البحث والتطوير والابتكار، من خلال تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة شبكات الكهرباء، ورفع الأداء في قطاعات مختلفة. وقد أثمرت هذه المبادرات في تقديم حلول رقميّة مبتكرة من قطر، تم تطبيقها في مشاريع دولية في إسبانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والبرازيل، وأستراليا.

نحو رقمنة مسؤولة

في ظل التحوّل الرقمي العالمي المتسارع، تتحمل الحكومات، والشركات، وقادة قطاع التكنولوجيا مسؤولية تبنّي سياسات رقمنة مسؤولة، ترتكز على معايير واضحة للكفاءة والاستدامة.  ويكمُن التحدي في المفارقة التي تطرحها الرقمنة، فهي من جهة تُسهم في زيادة الطلب على الطاقة، ومن جهة أخرى توفر أدوات فعّالة لتحسين الكفاءة وتقليل الانبعاثات، وهي المفارقة التي ستُشكل ملامح مستقبل الابتكار. 

ويتصدر الذكاء الاصطناعي هذا المشهد، بما يوفّره من أنظمة ذكية قابلة للتكيّف تفتح أفاقًا جديدة أمام مختلف القطاعات، لكن استدامة هذا التقدم تتطلب السير في مساريين متوازيين: تحسين كفاءة الطاقة، والتوسع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.

إن مستقبل الابتكار الرقمي حتميّ، لكن ينبغي أن يكون مستدامًا أيضًا. الرقمنة ترسم ملامح الغد، أما الاستدامة فتضمن استمراريته.


تشارك هذه المقالة